كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» ثم عدد سبحانه وتعالى أنواعًا من الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، الأوّل منها قوله تعالى: {أم من خلق السموات والأرض} أي: التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع، فإن قيل: ما الفرق بين أم وأم في {أم ما يشركون} و{أم من خلق السموات}؟
أجيب: بأنّ تلك متصلة لأنّ المعنى أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله خير أم الآلهة قال بل أم من خلق السموات والأرض خير تقريرًا لهم بأنّ من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء {وأنزل لكم} أي: لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره {من السماء ماء} هو للأرض كالماء الدافق للأرحام {فأنبتنا به حدائق} جمع حديقة وهي البستان، وقيل: القطعة من الأرض ذات الماء.
قال الراغب: سميت بذلك تشبهًا بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، وقال غيره: سميت بذلك لأحداق الجدران بها قاله ابن عادل، وليس بشيء لأنه يطلق عليها ذلك مع عدم الجدران {ذات بهجة} أي: بهاء وحسن ورونق وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها وتباين طعومها وأشكالها ومقاديرها وألوانها، ولما أثبت الإنبات له نفاه عن غيره بقوله تعالى: {ما كان} أي: ما صح وما تصوّر بوجه من الوجوه {لكم} وأنتم أحياء فضلًا عن شركائكم الذين هم أموات بل موات {أن تنبتوا شجرها} أي: شجر تلك الحدائق {أإله مع الله} أعانه على ذلك، أي: ليس معه إله {بل هم} أي: في ادعائهم معه سبحانه شريكًا {قوم يعدلون} أي: عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره، وقيل: يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أوّل سورة الأنعام، الثاني: منها قوله تعالى: {أم من جعل الأرض قرارًا} وهو بدل من {أم من خلق السموات} وحكمه حكمه، ومعنى قرارًا ألا تميد بأهلها، وكان القياس يقتضي أن تكون هادئة أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء، ولكن الله تعالى أبدى بعضها من الماء بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها {وجعل خلالها} أي: وسطها {أنهارًا} أي: جارية على حالة واحدة فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب لتغيرت مجاري المياه.
ثم ذكر تعالى سبب القرار بقوله تعالى: {وجعل لها رواسي} أي: جبالًا أثبت بها الأرض على ميزان دَبَّرهُ سبحانه وتعالى في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب، ولما كان بعض مياه الأرض عذبًا وبعضها ملحًا مع القرب جدًّا، بيّن الله تعالى أن أحدهما لم يختلط بالآخر بقوله تعالى: {وجعل بين البحرين} أي: العذب والملح {حاجزًا} من قدرته يمنع أحدهما أن يختلط بالآخر {أإله مع الله} أي: المحيط علمًا وقدرة معين له على ذلك {بل أكثرهم} أي: الذين ينتفعون بهذه المنافع {لا يعلمون} توحيد ربهم بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح تنبيه: في قراءة أإله مثل أئنكم، الثالث: منها قوله تعالى: {أم من يجيب المضطرّ} أي: المكروب وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرّع إلى الله تعالى {إذا دعاه} وقت اضطراره، وعن ابن عباس: هو المجهود، وعن السدي هو الذي لا حول له ولا قوة. فإن قيل: هذا يعم كل مضطرّ وكم مضطرّ يدعو فلا يجاب؟
أجيب: بأنّ اللام فيه للجنس لا للاستغراق ولا يلزم منه إجابة كل مضطرّ، وقوله تعالى: {ويكشف السوء} كالتفسير للاستجابة وأنه لا يقدر أحد على كشف ما وقع له من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة إلا القادر الذي لا يعجزه شيء والقاهر الذي لا ينازع، والإضافة في قوله تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} بمعنى في أي يخلف بعضكم بعضًا لا يزال يجدّد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة {أإله مع الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له ثم استأنف التبكيت تفظيعًا له ومواجهًا به بقوله تعالى: {قليلًا ما تذكرون} أي: تتعظون وقرأ أبو عمرو وهشام بالياء، التحتية على الغيبة، والباقون بالخطاب وفيه ادغام التاء في الذال وما زائدة القليل، الرابع منها: قوله تعالى: {أم من يهديكم} أي: يرشدكم إلى مقاصدكم {في ظلمات البر} أي: بالنجوم والجبال والرياح {والبحر} بالنجوم والرياح {ومن يرسل الرياح} أي: التي هي دلائل السير {بُشرًا} أي: تنشر السحاب وتجمعها {بين يدي رحمته} أي: التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع: التي من تجاه الكعبة الصبا، ومن ورائها الدبور، ومن جهة يمينها الجنوب، ومن شمالها الشمال ولكل منها طبع فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب على أهلها جعلنا الله ووالدينا ومشايخنا وأصحابنا ومن انتفع بشيء من هذا التفسير ودعا لنا بالمغفرة منهم، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير الريح بالإفراد، والباقون بالجمع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر ونشرًا بضم النون والشين وابن عامر بضم النون وسكون الشين، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين وعاصم بالباء الموحدة مضمومة وسكون الشين، ولما انكشف بما مضى من الآيات ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات واتضحت الأدلة، ولم يبق لأحد في شيء من ذلك علة، كرّر سبحانه وتعالى الإنكار في قوله تعالى: {أإله مع الله} أي: الذي كمل علمه {تعالى الله} أي: الفاعل القادر المختار {عما يشركون} به غيره، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة، الخامس: منها قوله تعالى: {أم من يبدأ الخلق} أي: كلهم في الأرحام من نطفة ما علمتم منهم وما لم تعلموا {ثم يعيده} أي: بعد الموت لأنّ الإعادة أهون، فإن قيل: كيف قيل: لهم ثم يعيده؟
أجيب: بأنهم كانوا مقرين بالابتداء ودلالته على الإعادة ظاهرة قوية لأنّ الإعادة أهون عليه من الابتداء، فلما كان الكلام مقرونًا بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لا عذر لهم في إنكار الإعادة لقيام البراهين عليها، ولما كان الإمطار والإنبات من أدلّ ما يكون على الإعادة قال مشيرًا إليهما على وجه عمّ جميع ما مضى.
{ومن يرزقكم من السماء} أي: بالمطر والحرّ والبرد وغيرها مما له سبب في التكوين أو التلوين {والأرض} أي: بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى: وعبر عنها بالرزق لأنّ به تمام النعمة {أإله مع الله} أي: الذي له صفات الجلال والإكرام، ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ودلائل قاطعة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إعراضًا عنهم بقوله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المدّعين للعقول {هاتوا برهانكم} أي: حجتكم على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى أو على إثبات شيء منه لغيره {إن كنتم صادقين} أي: في أنكم على حق في أنّ مع الله تعالى غيره، وأضاف تعالى البرهان إليهم تهكمًا بهم وتنبيهًا على أنهم أبعدوا في الضلال وأغرقوا في المحال، ثم إنهم سألوه عن وقت قيام الساعة فنزل.
{قل} أي: لهم {لا يعلم من في السموات والأرض} من الملائكة والناس {الغيب} أي: ما غاب عنهم وقوله تعالى: {إلا الله} استثناء منقطع أي: لكن الله يعلمه، ولما كان الله تعالى منزهًا عن أن يحويه مكان جعل الاستثناء هنا منقطعًا، فإن قيل: من حق المنقطع النصب؟.
أجيب: بأنه رفع بدلًا على لغة بني تميم يقولون ما في الدار أحد إلا حمار يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحدًا لم يذكر، ومنه قولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه، فإن قيل: ما الداعي إلى المذهب التميمي على الحجازي؟
أجيب: بأنه دعت إليه حاجة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله إلا اليعافير بعد قوله ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ليؤل المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب بمعنى أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت أن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، إنباء عن خلوها عن الأنيس.
ويصح أن يكون متصلًا والظرفية في حقه تعالى مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما قال به إمامنا الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وإن منعه بعضهم، ومن ذلك قول المتكلمين: الله تعالى في كل مكان على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها فكأن ذاته فيها، وعلى هذا فيرتفع على البدل والصفة، والرفع أفصح من النصب لأنه منفي، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول.
{قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وعن بعضهم أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدًا لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقوله تعالى: {وما يشعرون} صفة لأهل السموات والأرض نفي أن يكون لهم علم بالغيب، وإن اجتمعوا وتعاونوا {أيان} أي: أيّ وقت {يبعثون} أي: ينشرون، وقوله تعالى: {بل} بمعنى هل {أدارك} أي: بلغ وتناهى {علمهم في الآخرة} أي: بها حتى سألوا عن وقت مجيئها، ليس الأمر كذلك {بل هم في شك} أي: ريب {منها} كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلًا {بل هم منها عمون} لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهذا وإن اختص بالمشركين بمن في السموات والأرض، نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل.
فإن قيل: هذه الاضرابات الثلاثة ما معناها؟
أجيب: بأنها لتنزيل أحوالهم وصفهم أوّلًا بأنّهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة، ثم بما هو أسوأ حالًا وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه لا يخطر بباله حقًا ولا باطلًا ولا يفكر في عاقبة وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون، ووصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكمًا.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير بقطع الهمزة مفتوحة وسكون اللام قبلها وسكون الدال بعدها، والباقون بكسر اللام وإسقاط الهمزة بعدها وتشديد الدال وبعدها ألف بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا أئذا كناترابًا وآباؤنا أئنا} أي: نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم {لمخرجون} كالنبات، والعامل في إذا محذوف يدل عليه لمخرجون تقديره نبعث ونخرج، لأنّ بين يدي عمل اسم المفعول فيه عقبات وهي همزة الاستفهام وإنا ولام الابتداء وواحدة منها كافية فكيف إذا اجتمعت، والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على إذا وأنا جميعًا إنكار على إنكار وجحود عقب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه، والضمير في إنا لهم ولآبائهم لأنّ كونهم ترابًا قد تناولهم وآباؤهم.
تنبيه:
آباؤنا عطف على اسم كان وقام الفصل بالخبر مقام الفصل بالتوكيد.
وقرأ نافع بالخبر في إذا وبالاستفهام في أئنا، وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني وزادا فيه نونًا ثانية، وباقي القراء بالاستفهام في الأوّل والثاني وهم على مذاهبهم من التسهيل والتحقيق والمدّ والقصر، فمذهب قالون وأبي عمرو التسهيل في الهمزة الثانية، وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، ومذهب ورش وابن كثير التسهيل وعدم الإدخال ومذهب هشام الإدخال وعدمه مع التحقيق، ومذهب الباقين التحقيق وعدم الإدخال، ثم أقام الكفار الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلًا لاستبعادهم.
{لقد وعدنا هذا} أي: الإخراج من القبور كما كنا أوّل مرّة {نحن وآباؤنا من قبل} أي: قبل محمد فقد مرّت الدهور على هذا الوعد ولم يقع منه شيء فذلك دليل على أنه لا حقيقة له، فكأنه قيل: فما فائدة المراد به فقالوا {إن} أي: ما {هذا إلا أساطير الأوّلين} أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ولا حقيقة لها.
تنبيه:
أساطير الأوّلين: جمع أسطورة بالضم أي: ما سطر من الكذب، فإن قيل: لم قدم في هذه الآية هذا، على نحن وآباؤنا، وفي آية أخرى قدم نحن وآباؤنا، على هذا؟
أجيب: بأنّ التقديم دليل على أنّ المقدّم هو الغرض المقصود بالذكر وأنّ الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دل على أنّ إيجاد البعث هو الذي تعمد بالكلام وفي الأخرى على أنّ إيجاد المبعوث بذلك الصدد، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم بما في صورة التهديد بقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض} أي: أيها العمي الجاهلون {فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} بإنكارهم وهي هلاكهم بالعذاب فإنكم إن نظرتم وتأمّلتم أخبارهم حق التأمّل أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم كما هلكوا، وأراد بالمجرمين الكافرين، فإن قيل: فلم لم يقل عاقبة الكافرين؟